المركز الألماني للإعلام : المجتمع : الأدب : الأدب الألماني المعاصر بأقلام أبناء المهاجرين من البلدان العربية

الأدب الألماني المعاصر بأقلام أبناء المهاجرين من البلدان العربية

 عند الحديث عن الحركة الثقافية المعاصرة  في ألمانيا لم يعد من الممكن تحديد تيار فني أو فكري بعينه على أنه التيار السائد أو الممثل للقطاع الأكبر من المبدعين في ألمانيا، حيث بات ما يميز الساحة الفنية و الأدبية هناك هو تنوع مصادرها الثقافية. ولعل من أبرز الدلائل على ذلك حصول فيلم "ضد  الحائط" للمخرج فاتح أكان على جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي لعام 2004. ويعالج الفيلم قضايا الألمان من أبناء المهاجرين الأتراك من وجهة نظر إحدى فئاته. كذلك حاز فيلم "جود باي لينين" عام 2003 على جائزة النقاد من نفس المهرجان، وعرض الفيلم تداعيات سقوط سور برلين بالنسبة لأبناء ألمانيا الشرقية.

وفي مجال الأدب نجد أدباء ألمان مرموقين ذوي خلفيات ثقافية متنوعة أمثال "هيرتا مولر" التي تنحدر من الأقلية الألمانية برومانيا أو "فريدٌ زايم أوغلو" الذي هاجر والداه من تركيا إلى ألمانيا أو "يوديت هيرمان" ذات الأصول الألمانية الشرقية، وتتنوع أيضا الخلفيات العقائدية لهؤلاء الكتاب.

و في ألمانيا يشارك المواطنون من ذوي الأصول العربية الذين يتجاوز إجمالي تعدادهم ثلاث مائة ألف مواطن بشكل فاعل في قطاعات الحياة المختلفة ومنها الحياة الثقافية. فنجد من أبناء الجيل الثاني فنانين تشكيليين مثل الفنانتين "خلود القاسم" و"سوزان حيـفونة"، ومغنيين معروفيـن مثل "ليـث الدين" و"نادية" ( نجمة فريق الـ " نو آنجليس") و"سامي دي لوكس". ولكن تجدر الإشارة هنا إلى تفاوت تأثير الجذور التي ينحدر منها آباء هؤلاء الفنانين على أعمالهم، ففي حين تستعين الفنانة "سوزان حيفونة" التي ينحدر والدها من مصر في بعض أعمالها بموتيفات من الثقافة المصرية والعربية كفن المشربية، لا ترتبط أغنيات "نادية" أو "سامي دي لوكس" ذوي الأبوين سودانيي الأصل ولا أغنيات "ليث الدين" المولود لأب عراقي بالبلدان التي هاجر منها آباؤهم لا شكلا و لا موضوعا.وقد شق أيضا عدد من الأدباء الألمان من أبناء المهاجرين من البلدان العربية طريقهم في الكتابة أبرزهم شيركو فتاح ورائد صباح. كذلك يكتبه أنيس حمادة و عبد اللطيف اليوسفي.

وفي أعمال شيركو فتاح كثيرا ما يكون الشرق الأوسط مسرحا للأحداث كليا أو جزئيا، حيث تدور أحداث روايته الأولى مثلا في شمال العراق وبغداد، وتشكل كلا من ألمانيا والعراق خلفيات أحداث روايته الأخيرة. وفي قصته "دوني" الصادرة بفيينا عام 2002 تدور الأحداث بين الجزائر و النمسا التي يسترجع فيها جوتهارد الشخصية المحورية في العمل أحداثا من ماضيه عبر حوارات ونقاشات عديدة مع الراوي. وتنسج الأحداث خيوطها من خلال تعارف ألمانيين على بعضهما بأوروبا ومحاولة أحدهما وهو الأنا الراوية في العمل استدراج الآخر، جوتهارد، كي يروي له عن فترة عمله كجندي مرتزق لصالح الاحتلال الفرنسي ضد حركة المقاومة بالجزائر وعن المشاعر التي كان يشعر بها أثناء قيامه بالعمليات هناك. ويأتي على لسان الراوي في بداية العمل:

 أثار اهتمامي معرفة السبب وراء هذا الازدراء [لحركات المقاومة بالجزائر]، فسألته أن يروي لي المزيد عن خبراته كجندي مرتزق، وقد أجابني بلا تردد بالإيجاب. (قارن النص الألماني لفتاح في قصته "دوني" صفحة 10)

  

ومن خلال عملية"التذكر والنسيان" على مدار العمل يناقش النص علاقة ألمانيا بالتاريخ الاستعماري لأوروبا وهو موضوع نادرا ما تم طرحه في الأدب الألماني. لذا يعد هذا النص بموضوعه وإعادة توظيفه لفكرة " التذكر والنسيان " صوتا جديدا في الأدب الألماني وتوجد داخل العمل مشاهد ذات دلالة ورمزية كبيرة ، فنجد أن تذكر الأحداث بالنسبة لجوتهارد يكون عملية غير عسيرة حينما يتعلق الأمر بعمليات قنص أو قتل شبان وشيوخ جزائريين في حين أن التذكر يصبح أمرا مؤلما وأكثر تعقيدا عندما يروي كيفية فقدانه لكلبه "دوني" اثر حادث سيارة بالجزائر. ويتساءل الراوي في عدة مواضع داخل النص عن البعد الأخلاقي الغائب لدى جوتهارد ولكن دون الحكم عليه:

قلت بعد برهة: "إنني أتعجب، كيف يكون الإنسان أقل قيمة لديك من الحيوان"

أجاب: "لا تقل شيئا كهذا. ما دخل الحيوان بهذا الشأن؟" (قارن النص الألماني ل"دوني" صفحة 47)

وفي موضع آخر يسأل الراوي جوتهارد:

"ألم تشعر بالخجل من قتل انسان أعزل؟" (قارن النص الألماني ل"دوني" صفحة 51)

و تكمن في اختيار شيركو فتاح "دوني" عنوانا للعمل سخرية لاذعة من ازدواج المعايير        و المشاعر الإنسانية لدى بطل العمل وفي إشارة إلى قيمة الإنسان دون تمييز.

أما الأديب الشاب "رائد صباح" المولود عام 1973 بألمانيا لأبوين من أصل فلسطيني فقد صدر له إلى الآن عملين الأول عام 2002 بعنوان "الموت هدية" والثاني عام 2004 و عنوانه "الرياح تحمل ألمي منه"، ويروي قصة المعلمة الفلسطينية "أم محمد" ذات الأربعة أبناء و معاناتها المستمرة عند نقاط التفتيش لكي تتمكن من الوصول إلى المدرسة التي تعمل بها.

و تقدم قصة صباح "الموت هدية" سيرة ذاتية متخيلة لشاب فلسطيني في التاسعة و العشرين من عمره يقوم بدور الراوي، و يناقش النص الدوافع وراء إقدام بعض الشبان الفلسطينيين على القيام بعمليات فدائية.

وتتعرض القصة لحياة "سعيد" الشخصية المحورية الذي يحيا داخل مخيم جنين للاجئين بعد أن يضطر في سن التاسعة لمغادرة قريته مع أسرته فرارا من الاحتلال الذي يصادر أرضهم ليبني عليها مستعمرة اسرائيلية. وتتجلى من خلال الأحداث المعاناة المستمرة للبطل الذي يفقد أمه برصاص عشوائي لقوات الاحتلال أثناء الانتفاضة الأولى، كما يتعرض "سعيد" للاعتقال والتعذيب ويظل قابعا لمدة أربع سنوات بالسجون الإسرائيلية لمشاركته في إلقاء الحجارة على قوات الاحتلال. يخرج سعيد من السجن ليبحث عن عمل في مدينة حيفا، ويضطر للعمل بمهن بسيطة كغسل الصحون أو العمل كصبي نجار دون الحصول على تصريح عمل نظرا لأنه قد أصبحت له صحيفة سوابق تحول دون حصوله على عمل شرعي داخل إسرائيل. و على مدار الأحداث تقوم دورية عسكرية بإيقاف "سعيد"  و إذلاله وضربه ضربا مبرحا، ثم تأتي القشة التي قسمت ظهر البعير عندما تقوم دورية عسكرية بإطلاق النار على تاكسي كان يستقله سعيد فتصيب ساقيه. بعدها يسعى "سعيد" للقيام بعملية فدائية لكنه في نهاية العمل يلقى حتفه برصاص القوات الإسرائيلية أثناء عملية عسكرية لها بمخيم جنين.

ويستخدم العمل تكنيك المونتاج حيث تتخلل الأحداث الروائية وثائق حقيقية كاعترافات منشورة لضابط من الجيش الإسرائيلي بقيامه بتعذيب فلسطينيين كجزء من مهام وظيفته،  كما تشكل بعض الأخبار والمقالات من الصحف العبرية وغيرها جزءا من العمل. ويبرز العمل الوثائق التي تم ادماجها في النص من خلال استخدام الخط المائل لها. ويتصدر العمل استشهاد من التوراة وآخر من حديث نبوي.

وبالنظر إلى كتابات "أنيس حمادة"  نجده يكتب عدة أنواع أدبية كالشعر الغنائي  قصص الأطفال والمقال وتمتاز أشعاره بتعدد موضوعاتها. فأحيانا يتعرض لموضوعات عامة كالوحدة أو الحب،أو الموضوعات مثل العنصرية أو للقضية الفلسطينية ومعظم ما يكتب حمادة يقوم بنشره على الموقع الإلكتروني الخاص به.وقد كان أول ما قام بنشره نص ساخر عام 1993 بعنوان "العين بالعين أو القصص الخيالية لأحد خبراء ‘الغرب الأوسط’" انتقد فيه بيترشوللاتور أحد الأقطاب الإعلامية المتخصصة في شئون الشرق الأوسط وكيفية تسطيحه في عرض الأمور وعدم موضوعيته .

ومن أشعار أنيس حمادة قصيدة "حظر تجوال للمشاعر" التي كتبها عام 2004. يوجد داخل هذا النص مستويين متوازيين ومتداخلين أحيان، حيث تدور القصيدة حول مشاعر حب جارف ومستحيل في آن واحد لرجل تحول بينه وبين حبيبته عوائق كثيرة وتنتهي العلاقة بالفشل نتيجة تخليها عنه. ويكتسب موضوع القصيدة بعدا آخر من خلال المصطلحات والكلمات التي استوحاها حمادة من اللغة المستخدمة في النشرات الإخبارية عند عرضها لأنباء تتعلق بالشرق الأوسط والأراضي المحتلة، فنجد مثلا كلمات مثل "نقاط التفتيش"، و "المعابر"، و"حظر التجوال"، و "الجدار" في التعبير عن العلاقة بالحبيبة:

أعلنت حالة الطوارئ - كافة المعابر إلى قلبها مغـلقة - وعند البوابات يقف حرّاس - غير عـدائيـين ولكن صارمون - لا يمر من هـنا من ليس بحوزته أوراقاً صالحة - هـنالك أيّام دخلتُ عـدّة كيلومترات داخل أراضيها - وجـدتُ هـناك آثاراً لحلمي وبحـثت عـن أذن صاغية أما اليوم فكل الطرق مسدودة منذ الفجر - لا يستطيع أي متسلّل اختراق الجـدار - و ترتطم به الكلمات والإشارات - ناهـيك عن استحالة اللمس -  هو حظر التجوال للمشاعـر --

و تختلف علاقة الجيل الأول و الثاني بألمانيا و ببلدان الشرق الوسط و ينعكس هذا في كتاباتهم، فبينما كافح أبناء الجيل الأول من المهاجرين العرب لسنوات حتى يصبحوا جزءا من ألمانيا و حتى ينالوا الاعتراف بهم كمواطنين ألمان  وفي حين تشكل ألمانيا لهم بلد المهجر و الوطن الثاني الذي انتقلوا إليه سعيا وراء حياة أفضل، نجد أن علاقة الجيل الثاني بألمانيا علاقة انتماء لوطن أم و أقارب وأسرة فيه، وتتفاوت علاقة لجيل الثاني بأوطان آبائهم الأولى  تفاوتا  كبيرا من أديب لآخر، و تترجم هذه العلاقة في أعمالهم الأدبية بين نقد و رفض لها و لثقافتها من ناحية كما هو الحال في القصة القصيرة التي نشرت عام 2000 لعبد اللطيف اليوسفي ذي الأصول المغربية بعنوان "سأتزوج كلبا" التي يسرد فيها الراوي سعي أسرة مغربية مهاجرة في ألمانيا لتزويج ابنتها قسرا،  ومن ناحية أخرى نجد أدباء آخرين معنيين بشكل فني و إنساني بالبلدان التي هاجر منها ذويهم، والتي قام هؤلاء الكتاب بزيارتها مرات قليلة أو كثيرة لفترات محدودة. وقد عبر شيركو فتاح عن طبيعة ارتباطه بالمنطقة التي ينحدر منها والده في مقاله "أرض الطفولة. خواطر حول ما يسمى الازدواجية الثقافية" فقال:

  

إنني انظر إلى نفسي على أنني ألماني، حيث ولدت ونشأت في ألمانيا الشرقية، ثم انتقلت مع أسرتي إلى ألمانيا الغربية. وتعد علاقتي بالعراق واهية إذا ما قسنا إجمالي فترة إقامتي به وإلمامي باللغة، فقد أمضيت بعضاً من طفولتي هناك، كما قمت فيما بعد بزيارات متفرقة إليه، لكن لم تكن هذه الأمور كفيلة بخلق عاطفة حقيقية داخلي نحوه كوطن. فالمسافات المكانية وأيضاً الفروق الثقافية شاسعة لدرجة يصعب معها تكوين ألفة حميمة، لذا يظل هذا البلد بالنسبة لي مجرد أرض الطفولة (كما هو الحال مع ألمانيا الشرقية بالنسبة لي). ("أرض الطفولة" بمجلة أخبار الأدب، العدد 560، صفحة 12)

ويشير فتاح إلى انعكاس تعدد الخلفية الثقافية للكاتب على النصوص التي يكتبها و إلى تأثير هذه الأعمال الآخذة في الانتشار على الساحة الثقافية الأوروبية:

 

ونعود بذلك إلى أرض الطفولة ومعناها بالنسبة للأدب. إن ذلك الوطن الغريب يصاحبني كالظل. فقد بقى بعيداً عني من ناحية، ولكنه يدنو مني مراراً وتكراراً  بشكل عجيب، كما سبق وأن شرحت هنا. ربما أدت بي هذه الحالة إلى أن أجد لي وطناً داخل عالم الحكاية أكثر مما أجده في الحقيقة. والطريق للتعبير عن ذلك بالنسبة لي هو الأدب. وإذا أخذنا بعين الاعتبار كَمْ الهجرات الهائلة التي نشهدها والتي سوف تزداد مستقبلاً، فإنه يمكن الافتراض أن الظاهرة الموصوفة هنا ستصبح جزءًا لا يتجزأ من ثقافات الكثير من البلدان وخاصة أوروبا .

ولن يؤدي ذلك إلى جعل هذه الثقافة أعظم أو أفضل قيمة، بل سيرتبط ذلك بجودة كل عمل على حدة. ولكن ربما ساعدت فكرة في هذا التطور: ربما كانت كل أرض هي أرض الطفولة، إلا أننا ربما بعيدون عنها لأننا لا نعرف عنها شيئاً أو أننا قريبون منها أكثر من اللازم لأننا نحيا فوقها منذ أمد بعيد يوماً بعد يوم. في كلتا الحالتين يمد لنا الأدب يد العون للتعبير عنها، ولو حتى بشكل عابر. ("أرض الطفولة"  صفحة 12)

و يميـز أدباء الجيـل الثاني عن الجيـل الأول من الأدباء الذين هاجروا إلى ألمانيا ( أمثال رفيق شامي ويوسف نعوم وسليم الأفينيش، و عادل قرشولي، ووديع سداح وهدى الهلالي) أنهم في تناولهم لموضوعات ذات علاقة بالشرق الأوسط ينظرون إليه بنظرة أقل انغماسا في الأحداث لذا نجد أن لغة الخطاب والسرد عندهم من زاوية أكثر بعدا من الجيل الأول. و يتناول فتاح هذه الرؤية السردية داخل كتاباته  في مقالته "أرض الطفولة" قائلا:

أردت أن أعثر على صوت ينقل كلاً من الشعور بالانتماء والغربة في آن واحد، حيث كنت أشعر بكليهما نحو هذا البلد [العراق]، الذي أصفه في كتاباتي. لم يكن ما أسعى إليه سهلاً، ولقد كلفني أيضاً فيما بعد أن اتُّهمت بأن "برود الثلج" يغلب على العمل، غير أن ما كنت أصبو إليه وصل للمتلقي في نهاية الأمر.

 ونتيجة للرؤية الجديدة للأدباء الألمان من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين لبعض قضايا الشرق الأوسط تمكنت أعمال أدباء مثل رائد صباح و شيركو فتاح من رسم ملامح إنسانية غير غرائبية لأناس من البلدان العربية دفعتهم الظروف المحيطة بهم لأن يكونوا أطرافا في الصراعات الدائرة حولهم. ويفتح أدب هذا الجيل المجال بشكل كبير في خلق وعي جديد بالمنطقة لدى القارئ الألماني بعيد كل البعد عن الصور المتخيلة عن الشرق في "ألف ليلة وليلة" و مختلف أيضا عن الشرق الأوسط الذي تتصدر أخباره يوميا نشرات الأخبار.

بقلم منار عمر


الأديب شركو فتاح

الأديب شركو فتاح

ولد فتاح عام 1964 ببرلين الشرقية لأب كردي عراقي وأم ألمانية ، ونشأ بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية والعراق


الأديب أنيس حمادة

الأديب أنيس حمادة

ولد الأديب والكاتب الغنائي أنيس حمادِه بمدينة هامبورج يوم 25/10/1966 لأم ألمانية وأب فلسطيني الأصل.